ديفيد لينش: لا أستلهم افكاري من الاحلام ولا أشاهد الافلام

لوس أنجليس : عندما أعلن المخرج الأمريكي العريق ديفيد لينش عام 2014 على موقع توتير إعتزامه استكمال مسلسل «توين بيكس» التلفزيوني الشهير، هبت عاصفة ترحيب هستيرية على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل معحبيه ومعجبي المسلسل، الذي يعتبر أهم انتاج تلفزيوني في كل العصور. ملايين المشاهدين من كل أقطار العالم فُتنوا به وتابعوه بتلهف عندما بثته شبكة «أيه بي سي» التلفزيونية الأمريكية في أوائل التسعينيات وما زالت شخصياته وحلقاته محفورة في أذهانهم.

وفي حديث أجريته معه الشهر الماضي في فندق «الفور سيزنز» في «بيفرلي هيلز»، عبّر لي عن استغرابه من نجاح المسلسل عالميا: «كيف يمكن لقصة صغيرة في بلدة في شمال غرب الولايات المتحدة تستقطب اهتمام اليابانيين والفرنسيين؟ هذا أمر محيّر ولكنها ظاهرة رائعة»، يعلق ضاحكا.

لأول وهلة، قصة المسلسل لم تبدو أنها تختلف عن قصص المسلسلات التلفزيونية الاخرى، التي كانت معروفة بسذاجتها وسطحيتها. ففي صلبها محقق من مكتب التحقيقات الفدرالي يبحث عن قاتل فتاة من بلدة «توين بيكس» تم انتشال جثتها من نهر في ولاية واشنطن. ومن خلال تحرياته نتعرف على أهل البلدة ونكتشف أسرارهم ورومانسيتهم وكيدهم وعدائهم لبعضهم البعض. ولكن ما ميز هذا المسلسل عن غيره من المسلسلات كان رؤية لينش البصرية والموسيقية المنبثقة من أسلوبه السريالي، الذي يعتمد على تحطيم منطق السرد الدرامي التقليدي ويقوم على التداعيات وعلى شخصيات غريبة الأطوار وعلى الانتقال بين عوالم مختلفة وبين الطفولة والشباب وبين النهار والليل، والتداخل بين الماضي والحاضر، والمزج بين الأحلام والواقع والجمال والقباحة والرومانسية والرعب.

«توين بيكس» كان حدثا تاريخيا في عالم التلفزيون، لأنه كان أول مسلسل يخرجه مخرج سينمائي. المشاريع التلفزيونية كانت تعتبر فنا هابطا وخالية المضمون وكان هدفها التسلية السطحية ولهذا لم يأخذها السينمائيون مأخذ الجدية. وكان مخرجو المسلسلات التلفزيونية مستأجرين يعملون عند الاستوديو ويلبون أوامر المنتج كغيرهم من أعضاء الطاقم ولم يكن لهم اي نفوذ في عملية الانتاج أو تأثير فني.وكان لينش أول سينمائي، وهو واحد من أهم المخرجين المعاصرين، يخوض هذا العالم ويصبغه بصبغته السينمائية السيريالية الذاتية، مما ساهم في استقطاب نجوم الأفلام للعمل في مشاريع تلفزيونية ورفع مستواها الفني والمضموني.

ويقول لينش إنه وافق على المشروع لأنه، خلافا لزملائه المخرجين السينمائيين، لم يكن يميز بين التلفزيون والسينما: «صحيح أن الوسيط هو التلفزيون ولكن عملية الانتاج لا تختلف عن صنع فيلم وهي سرد قصة بصور متحركة وصوت».

فعلا فإن «توين بيكس» لا يختلف أسلوبا ومضمونا عن أفلام لينش السيريالية، التي تدور أحداثها عادة في عالم تجريدي يشبه الحلم أو الكابوس ومعبأ بالتناقضات والازدواجية والشذوذ والانحرافات والعنف والشر.هذا العالم يكمن تحت غطاء وردي وناعم يعرضه لنا لينش في بداية كل فيلم من أفلامه. ففي توين بيكس يقدم لنا بلدة هادئة وجميلة قبل أن يخوض في عالمها الداكن ويكشف عن الشر الذي يتربص وراء براءة سكانها الظاهرية. هذه النظرة التشاؤمية تتكرر في كل أفلامه وكأنه يحذرنا من الثقة بحواسنا ومن الانخداع بالمظاهر الجميلة ويحثنا على الغوص في الأعماق للبحث عن الحقيقة المرّة والقبيحة.

ولكن المخرج السريالي لا يقدم أجوبة أو حلولا لأزماتنا الوجودية والاجتماعية التي يسبرها في أفلامه.بالعكس، هو يزيدها تعقيدا وغموضا من خلال غرسها بألغاز وتساؤلات ما زالت تشغل اذهان المعلقين والنقاد حتى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، هوية شخصيات فيلم «مالهولاند درايف» ما زالت تثير الجدل بين النقاد: هل دايان كانت من الواقع الحقيقي وبيتي كانت من الواقع الحلمي، اللتان تجسدهما نعومي واتس، أو بالعكس؟ من هو رجل الشر؟ الفيلم كغيره من أفلامه يتردد بين الحلم والحقيقة ولكن نحن لا نعرف من الحلم ومن الحقيقة. وهذا ما نشعره عندما نحلم فربما الفيلم باكلمه هو حلم أو كابوس.الغريب هو أن لينش نفسه لا يعرف ذلك أيضا ويرفض أن يخوض في نقاش هذا الموضوع.

«طبيبي حذرني من التفكير بذلك لكي لا أنحرف واستمر مسيرة حياتي»، يقول ضاحكا. «أنا أفسر أفلامي لنفسي، لأن كل شخص مختلف. نحن نرى الأشياء نفسها ونسمع الأشياء نفسها ونحاول أن نفهم ما يدور حولنا. تفسيري لن يساعد أحدا. لا يمكنك أن تحفر قبر مؤلف لتسأله عن كتابه، عليك أن تقرأ كتابه وتفهمه بنفسك. وهذا جميل جدا أن تفكر وتشعر وتستنتج النتائج مثل رجل مباحث».

فعلا فأن أفلام لينش تستحوذ على أذهاننا وتشعلها بافكار غريبة وعجبية وتتحدى قدرتنا على تأويلها.ومن خلال حديثي معه، شعرت أن ما يطرحه في أفلامه هي أحلام انبثقت من لاوعيه ولكنه لا يدرك معناه آملا أن ينجح مشاهدوها في تفسيرها. وأذكر أن الممثلة باتريشا أركيت، التي لعبت دوري ريني واليس في «لاست هايوي» كشفت لي قبل عامين أنها عندما سألته عن هوية شخصيتها، رد عليها: «لا أدري. ما رأيك أنت؟» وكان عليها أن تفسر تلك الشخصيتين حسب رؤيتها.

رغم صعوبة أو استحالة فهم ما يدور في أفلام لينش إلا أننا نذوب فيها ذهنيا وعاطفيا وذلك بفضل براعته في استخدام أدوات السينما الساحرة مثل الجماليات البصرية والأصوات المثيرة والموسيقى الشيّقة: «أنا دائما أقول إن السينما هي صورة وصوت تتحرك معا عبر الزمن». يعلق لينش: «أحيانا هي تتحرك بسرعة واحيانا ببطء، مثل الموسيقى.
وهناك عناصر كثيرة تجتمع معا لسرد قصة سينمائيا، وضروري جدا أن تتحلى كل هذه العناصر بأعلى مستوى من الجودة.ولكن السينما هي كثير ما مثل الموسيقى. فهي مكونة من حركات مختلفة: أحيانا تكون صاخبة وأحيانا تكون هادئة جدا.ومهم جدا كيف تدخل الموسيقى المشهد وكيف تخرج».

لينش مارس الموسيقى منذ صغره وخاصة نفخ البوق، ولكنه يقول إنه تعرّف على الموسيقى من ملحنه انجلو بادالامنتي، الذي كان يطلب منه كلمات الغناء لكي يكتب اللحن: «فبدأت اكتب له الأغنيات وذلك أجبرني على قضاء كثير من الوقت معه وبالتالي تشربت الموسيقى منه. ورغم أنني قمت بانتاج بعض الموسيقى إلا أنني لست موسيقيا. يمكنك أن تحب أنواعا كثيرة من الموسيقى ولكن عليك أن تختار الموسيقى المناسبة لتقترنها بالصورة. وعليها أن ترفع عالم الفيلم وتتعايش معه. وهذه عملية تمزج تفكيرك وشعورك. ومهم جدا كيف تبدأ الموسيقى وكيف تنهيها. الموسيقى هي ساحرة ومهمة جدا في السينما».

فعلا فان لينش يعتمد على الموسيقى لخلق الأجواء والمزاج في مشاهد أفلامه وبث الحياة في مشاهد صامتة لا حياة فيها وتعزيز الدراما ومشاعر الرومانس والرعب والترقب والقلق. وكل فيلم من أفلامه مميز عن غيره بالأغنيات التي تفتتحه او تختتمه. ويكرس وقتا طويلا في اتقان مونتاج الصوت والموسيقى ولكنه يتحسر الآن على ضياع الصوت في الأفلام بسبب الازعاج الناتج من الأجهزة الإلكترونية الحديثة: «الصوت تأثر بشكل مفجع مؤخرا».
يقول المخرج ابن الـ 71 عاما.

«الناس يظنون أنهم شاهدوا فيلما ولكن في الحقيقة هم لم يشاهدوه كما كان مخططا أن يُشاهد أو يُسمع. هناك كثير من الضوضاء في عالمنا هذه الأيام. فمرور سيارة يحطم مزاج القصة وتحرمك من التعايش معها ولهذا مفضل أن تستخدم سماعات وتشاهد الفيلم في غرفة مظلمة لكي فعلا تعيش واقع الفيلم».

لينش لم يكن مهتما بالسينما في صغره مثل معاصريه من المخرجين، وما زال لا يشاهد كثيرا من الأفلام: «أنا لم أشاهد منذ عدة سنوات لأنني كنت مشغولا في صنع توين بيكس»، يقول ضاحكا». الحقيقة أنني لست هاوي أفلام. أنا أحب صنع الأفلام ولكن ليس مشاهدتها.كما أنني لا أشاهد برامج تلفزيونية ما عدا الأخبار».

القناة التلفزيونية الوحيدة، التي يواظب على مشاهدتها هي «فيلوسيتي» التي تبث برامج عن السيارات وصنعها وتصليحها: «أنا تعلمت الكثير من هذه القناة وخاصة العمل بالحديد ومحركات السيارات. إنه مبهج لأن ما يصنعه هؤلاء الاشخاص هو اعمال فنية عظيمة»، يضيف المخرج.

الحقيقة هي أن شغف لينش الأول هو الرسم، الذي مارسه منذ التاسعة من العمر. وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية التحق بأكاديمية الفنون المرئية في فيلاديلفيا وبينما كان يرسم رسمة في ليلة هناك، لاحظ أن الرسمة بدأت تتحرك وصار يسمع صوت الرياح ينبثق منها: «وهذه التجربة حثتني على صنع فيلم رسوم متحركة قصير ثم فيلم آخر عن ستة رجال يمرضون وهكذا انطلقت مسيرتي السينمائية»، يضيف لينش.

وبعد أن حصل على منحة من معهد الأفلام الأمريكي، انتقل المخرج الشاب عام 1971 مع زوجته وطفلته إلى لوس أنجليس، حيث قام بصنع فيلمه الأول «الرأس الممحاة»، الذي أثار الجدل والانتقاد الحاد بسبب مضمونه الغريب وسرده غير المنطقي. حتى أن شاهده المتنج الهوليوودي ميل بروكس وعرض على لينش إخراج «الرجل الفيل»، المستلهم من قصة رجل عاش في لندن في القرن التاسع عشر، حيث كان يثير الرعب والاستمئزاز في قلوب الناس بسبب تشوه وجهه وجسده. ورغم أن لينش طرح الفيلم بسرد خطي إلا أنه صبغه بصبغته السيريالية الذاتية.

نجاح «الرجل الفيل» التجاري والنقدي فتح أبواب هوليوود امام لينش وجعل منه نجما عالميا. ولكنه رفض أن يصنع أفلاما هوليوودية تقليدية مثل «حرب النجوم»، واختار الاستمرار في تطوير أسلوبه السينمائي الذاتي، الذي صار يُدعى الأسلوب اللينشي. أسلوب يعتمد على سرد غير خطي وأحداث غير منطقية وغير معقولة وشخصيات غامضة وغريبة الأطوار وعوالم تبثق من الأحلام او اللاوعي. ولكن السؤال الذي شغل بال معجبيه هو: من اين يأتي بالأفكار المجنونة التي يطرحها في أفلامه؟

«أنا لا أفكر بذلك ابدا»، يضحك لينش: «الأفكار تأتي لي في كل مكان، بينما أكون جالسا في بيتي او في طريقي إلى الدكان ولا أعرف ما يثيرها ولكنها تأتي بكميات هائلة. إنها تأتي من الخارج وتدخل إلى وعيي وتتجلى أمامي وأنا التقطها وهذا أمر مبهج كما يصطاد الصياد السمكة. وثم ابدأ بالبناء حسب الفكرة. والفكرة هي التي تملي أسلوب سردها وترجمتها بوسيلة ما».

ورغم أن أفلامه تبدو كأحلام إلا أنه ينكر استلهام أي منها خلال منامه: «أحلامي الليلية لم تنتج أي فكرة فيلم»، يقول ضاحكا: «ولكني دائما أحلم خلال يقظتي. آنا أحب الجلوس في مقعدي والتفكير وتخيل اشياء حتى تحط فكرة في ذهني».

ولكن إذا تمعّنا في بداية حياته نستخلص أن مصدر افكاره السوداوية التي يطرحها في أفلامه ينبع من تجاربه الحياتية.فرغم أنه ترعرع في عائلة من الطبقات الوسطى وعاش طفولة سعيدة جدا حسب قوله إلا أن خياله كان ثريا بصور مرعبة كانت تتجلى أمامه منذ نعومة أظفاره، مما جعله يحس أن تحت سطح عالمه الوردي تتربص قباحة وشر ورعب وقلق. وتعزز هذا الشعور فيه عندما كان يعيش في فيلاديلفيا، حيث كان يسكن في ضاحية فقيرة تعاني من ظواهر الاجرام وتجارة المخدرات والسرقات. واعترف أنه هو وعائلته كانوا يعيشون في حالة رعب مستمرة وتم الاعتداء عليهم وسرقة بيتهم عدة مرات.

الواقع الذي عاشه لينش ينعكس في أفلامه. ففي فيلم «مخمل أزرق» نشاهد في البداية بلدة وردية وجميلة ولكن تحت سطح خضارها تكمن حشرات قبيحة وعنيفة. وسرعان ما نكتشف أذنا مقطوعة ومرمية بجانب الطريق ومن هنا يقودنا لينش إلى عالم سوداوي مرعب يتربص تحت غلاف البلدة الفاتن .وهذه الفكرة تتردد في أفلامه الأخرى مثل «مالهولاند درايف»، الذي يمزج جمال هوليوود الساحر بالاجرام الذي يتحكم بمسارها.

كما أن الازدواجية التي عاشها تنعكس في شخصيات أفلامه. مثل ريني واليسون في «لاست هايوي» وديان وبيتي في «مالهولاند درايف»: «أنا لا أفكر بذلك كثيرا. الفكرة دائما تأتي بشكلين. هناك امر مثير عن الازدواجية والوحدة في فلك البشرية. ربما هذا شيء في الهواء يستحضر تلك المتناقضات».

بلا شك أن قبولنا لأفلام لينش العبثية وغير المعقولة وغير المنطقية أجبرنا على النظر إلى المنطق بنظرة جديدة: ما هو المنطقي وما هو المعقول وما هو الحلم وما هو الواقع؟ هذه كلها أمور شخصية وليست موضوعية. فالملحد، على سبيل المثال، يعتبر الايمان بالله غير محسوس هو غير منطقي، ومن جهة أخرى، المؤمن يعتبر انكار وجود رب لهذا الكون هو غير منطقي. وما فعله لينش هو خلق عوالم من لاوعيه ذات احكام خاصة بها، تكون غير معقولة في عالمنا الواقعي ولكنه نجح في جذبنا لها والتعـايش مع احـداثها والتـماهي مـع شخصـياتها.

«توين بيكس- العودة» الذي يتم بثه هذه الأيام على شبكة «شوتايم» لا يختلف أسلوبا ومضمونا عن أعمال لينش السابقة. لو لم يكن هذا المسلسل من صنعه لما شاهده أحد ولكن معجبي المخرج السريالي يواظبون على مشاهدة كل حلقة رغم عدم فهمهم لمجريات أحداثها لأنهم يدركون أنه يتحدى فطنتهم وأنه سوف يفاجأهم بمعجزات سينمائية لاحقا.